صناعة الغزل والنسيج: بقلم:محمد علي شاهين
عرفت حواضر الجزيرة العربيّة الغزل والنسيج اليدوي، وروت المصادر أن امرأة جاءت ببردة نسجتها بيدها فكست بها رسول الله (ص) فقبلها، واشتهرت تجارة الأقمشة الصوفيّة والحريريّة فيها، ومارس أكابر الصحابة هذه الحرفة، فقد كان عثمان بن عفان من أكبر تجّار البز، وكذلك طلحة بن عبيد الله ، وأبو بكر الصدّيق، وعبد الرحمن بن عوف، وأما الزبير بن العوام ، وعمرو بن العاص، وعامر بن كريز ، فكانوا خزّازين، رضي الله عنهم أجمعين .
ووصف المسلمون بأنهم أهل تدقيق في الصناعات، فقد تفوّقوا في نسج الثياب الموشّاة والبسط والبرود، وازدهرت صناعة غزل ونسج الأقمشة الحريريّة والصوفيّة والقطنيّة والكتانيّة في أقطار الخلافة التي تنتج مادتها الأوّلية، واشتهرت شرقي فارس ، وبلاد ما وراء النهر، وأفغانستان وشمال أفريقيا بالمنسوجات القطنيّة، ومصر بالمنسوجات الكتانية فائقة الجودة، وإقليم خوزستان بالمنسوجات الحريريّة .
وتكشف لنا نصوص الرحالة عن بعض المراكز المتخصصة في عمليات التطريز والحياكة، إلى جانب ما أمدتنا به تلك النصوص من أسماء لأنواع المنسوجات وخصائصها وألوانها وأشكالها .
ومن أهم مراكز صناعة النسيج في مصر التي أشارت إليها النصوص، مدينة دمياط ، وتنيس، والمحلة، وشطا، ودبقوه، وأبيار، وبني سويف، والفيوم، وبوش، وبهنسا، ودلاص، ودميرة .
وأثنى الرحالة على ما يصنع في مغازل تنيس من جودة تفوق ما يصنع في كافّة الأقطار، وفي ذلك يقول البكري: ومدينة تنيس كبيرة لها مسجد وأسواق، وأهلها ذوو يسار وثروة، وأكثرهم حاكة، وثيابها الشروب لا يصنع مثلها في الدنيا .
وصار النسيج الموصلي مضرب المثل في الدقّة والجودة والجمال، واتّخذوا من الشاش الموصلي الغلالات الجميلة، وطرّزوا حواشيه بالحرير، واتخذ النساء منه ثياباً للزينة وأزراً، كما اتخذن منه الأحزمة التي تفوق بجمالها أحزمة الحرير . (1)
وإلى صنعاء ينسب الوشي، ولبعض المتأخرين يذكر ممدوحاً:
وشي نضار صلاته بلجينه أعجب بحسن الوشي من صنعاء
وتعمل بصنعاء الحبرات من القطن التي لا يقدر في غيرها على اتخاذ مثلها، ومنها تحمل إلى البلاد، وكذلك الأردية، والعمائم العدنيّة، والثياب السحولية، والأدم الطائفي لا يوجد في قطر من الأقطار مثله . (2)
وذكر من صناعات بخارى : البسط، والمصلّيات، والثياب الرخوة، وثياب الفرش التي تفرش في حجرات الضيوف، وكانت تنسج في محابسها حزم الخيل، وتدبغ فيها جلود الضأن، وكان الصفّارون يصنعون بسمرقند القدور العظيمة من النحاس . (3)
وبفارس أصباغ من مختلف الأنواع، فكثر فيها الصبّاغون، وكان لبسطها وثيابها الموشاة شهرة بعيدة في كل العصور . (4)
وكان ينسج ببغداد ألوان ثياب الخز، واشتهرت البصرة بصناعة الكحل (الراسخت)، ومعدن يعمل منه الحبر الأحمر، وتعمل ثياب الكتان الرفيعة على عمل القصب بالأبلّة، واشتهرت الكوفة بعمائم الخز، ومناديل الحرير (الكوفيات)، والنعمانية بالأكسية وألوان ثياب الصوف، وواسط بصناعة السجّاد، والستور، ومرو بثياب الإبريسم .
وفي القاهرة أنشأ المعز لدين الله الفاطمي دار الكسوة ، وكان يصنع بها كسوة الكعبة ، وثياب موظفي الدولة، والخلع التي تمنح لكبار المسؤولين في المناسبات الدينية، كما أنشأ الفضل الجمالي دار الديباج لصناعة أفخر الثياب، والظاهر الفاطمي دار البنود، لصناعة الأعلام والرايات .
وازدهرت صناعة المنسوجات الحريرية في الأندلس إلى جانب المنسوجات الصوفية والكتانية والقطنية، نظراً لكثرة أشجار التوت، فكانت النساء الريفيات يقمن بتربية دود القز، ورعاية بيضه، وحل شرانقه، وغزل خيوطه وصبغها بالألوان الثابتة الجميلة، وكانت أشهر مراكز نسج الحرير قرطبة والمريّة ومرسيّة .
ويتحدث صاحب نفح الطيب عن صناعة النسيج في الأندلس حيث بلغت أناقة أهل الفردوس المفقود درجة عالية، فقد أنتجوا في مصانعهم الأقمشة المختلفة ومنها: الوشي المذهب في المريّة ومالقة، والملبّد المختّم في غرناطة وبسطة، كما كانوا يتخذون الفراء من حيوان بحري يسمى السمّور، وحيوان آخر يسمى القنلية (الأرنب) .
وتحدث الدكتور الطوخي عن صناعة النسيج في مملكة غرناطة فذكر أن سلاطين غرناطة كانوا يقدّمون منسوجات مملكتهم هدايا إلى ملوك الدول الأخرى، ونقل عن المصادر أن مدينة المريّة كانت مصنعاً للحلل الموشّية النفيسة، وثياب الحرير الموشّاة بالذهب ذات الصنائع الغريبة، وأنه كان بها ثمانمائة نول لنسج الحرير، وألف نول للحلل النفيسة، والديباج الفاخر والإسقلاطون، والأصبهاني والجرجاني، والستور المكللة، والثياب المعيّنة، والعتابي الفاخر، وصنوف الحرير ؛ وأن بمالقة حلل الديباج البديعة ذات التطريز، والحلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتجة برسم الخلفاء فمن دونهم، وأضاف قائلا: ابتدع النسّاج الغرناطي في القرن الثامن الهجري (14 ميلادي) طريقة جديدة استطاع بها أن يستخدم ألواناً عديدة، وبرع في إبراز الزخارف الهندسيّة الشهيرة عن طريق هذه الألوان التي يدل انسجامها على رقّة ذوق عجيبة، واستخدمت في زخرفتها مجموعات هندسيّة زخرفيّة غرناطيّة، وتوريقات وزخرفة حيوانيّة وغيرها . (5)
وأدخل الأمير عبد الرحمن الثاني فكرة دار الطراز ، لإنتاج الثياب الفاخرة، وجعلها بجوار قصره، وعهد بها لصاحب الطراز، كما كان لعرب صقلية دار طراز بمدينة بلرم ، لا تزال بعض منتوجاتها من الحرير الأحمر الموشّى بخيوط الذهب محفوظة في متحف فيينا .
وتشهد مقتنيات متاحف إسبانيا للأندلسيين بالتفوق والبراعة، ويشعر الزائر العربي لمتاحف: (فيجو بقطالونيا) و(الأكاديمية الملكية بمدريد ) و(متحف الفن ببروكسل ) وغيرها من المتاحف المتخصصة بالزهوّ والخيلاء فيما بلغ أجداده من الرقي والتقدّم في صناعة النسيج .
وتحدث الإدريسي عن صناعة نسيج الحرير بالساحل الشامي، وما حازته من شهرة واسعة في الشرق والغرب، وأشاد بمصنوعات صور الحريريّة، ووصفها بأنها من أفخر الأجناس، وأنها تمتاز بجمالها على غيرها من منتجات الشام ، وأنها كانت مرغوبة جداً في الخارج، وأن طرابلس كانت تفاخر بمنسوجاتها المبرقشة .
ومن المنسوجات الفاخرة التي تصنع في مدن الشام كلها وخاصّة طرابلس وطرطوس، المنسوجات المخملية، وكانت تصنع من وبر الجمل أو وبر الماعز، أو من الصوف، أو من الحرير
صناعة السجّاد:

تعتبر بلاد التركستان الصينيّة الموطن الأصلي للسجّاد، لكن شهرة السجّاد الإسلامي الفارسي اليدوي، المصنوع من خيوط الصوف أو الحرير، فاقت كافة المشغولات الوبرية .
ويبدي المستشرق (روم لاندو ) إعجابه بالسجادة الفارسية الشائعة ذات المحراب، والمصباح المتدلي من سقف المسجد، وبرسوم صفحة السجاد الفارسي المشابهة لزهور الحديقة فيقول: وفّق الفرس إلى الاحتفاظ بجنتهم الصغيرة الخاصّة حتى ضمن جدران البيوت، ولقد فعلوا ذلك بأن جعلوا من السجادة حديقة؛ إن الرياحين ومساكب الزهور التي نجد رسومها منظومة نظماً متساوقاً على صفحة السجادة لا تعدو أن تكون تمثيلاً للجنينة الفعلية الخارجية . (7)
واشتهر المسلمون بعشقهم للسجاد، وتنافسهم على اقتناء نفائسه، والمحافظة عليه في بيوتهم ومساجدهم نظيفاً طاهراً، ولا ينتعل المسلم حذاءه إذا أراد أن يطأ بقدمه سجادة الصلاة، أو سجاجيد حجرات المنزل، حفاظاً على طهارة المكان، ويفرّقون بين الجيد والرديء منه في عدد العقد في الإنش المربع الواحد، وثبات الألوان، ومتانة الخيوط، وروعة الرسوم .
ولم تكن صناعة الأبسطة والسجاد الفائق الجودة مقصورةً على بلدان المشرق الإسلامي، بل تعدته إلى الأندلس ، وخاصّة إلى بسطة وغرناطة، حيث كان يستخدم في تزيين الحوائط، وفرش أرضيات المساجد والبيوت، وإلى بسطة هذه ينسب سجاد صلاة يسمى (الوطاء البسطي) ويصنع من الديباج الذي لا يعلم له نظير، وليس لدينا غير سجادتين من القرن التاسع الهجري (15 ميلادي) محفوظتين بالمتحف الأثري بغرناطة . (8
المراجع
  • تاريخ الموصل ج1 ص404 سعيد الديوه جي .
  • الروض المعطار ص 360 محمد عبد المنعم الحميري .
  • معجم البلدان م5 ص87 ياقوت الحموي .
  • بلدان الخلافة الشرقية ص332 كي لسترونج .
  • مظاهر الحضارة في الأندلس في عصر بني الأحمد ص 304 أ. د. أحمد الطوخي
  • شذرات الذهب ج7 ص218 ابن العماد الحنبلي .
  • مظاهر الحضارة في الأندلس في عصر بني الأحمد ص 307 أ. د. أحمد الطوخي .